بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين.
مستمعي الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: نتابع
في هذه الحلقة عرض بعض المواقف من بيت النبوة مع بيان بعض الفوائد واللطائف من تلك
الحياة النبوية الكريمة، فمن ذلك:
ما روته عائشة أمُّ المؤمنين -رضي الله
عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كلِّ رمضان، فإذا صلى
الغداة؛ دخل مكانه الذي اعتكف فيه، فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذِن لها، فضُربت
فيه قُبة، فسمعت بها حفصة -رضي الله عنها-، فضَربت قبة، وسمعت زينب -رضي الله عنها-
بذلك، فضربت قُبَّة أخرى، فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغداة
-يعني من صلاة الصبح-؛ أبصر ورأى أربع قِباب، فقال ما هذا؟ فأُخبر خبرهن، فقال: (ما
حملهن على هذا؟ آلبر؟ انزعوها، فلا أراها)، فنُزعت، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف
في آخر العشر من شوال[1].
وفي هذا الحديث -مستمعي الكرام- تخبر أمُّ
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبادة
الاعتكاف في رمضان، والاعتكاف: هو أن يلزم المسلم المسجد للعبادة على هيئة وشروط
مخصوصة مبيَّنة في موضعها، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يداوم عليه، كما
أخبرت عائشة -رضي الله عنه- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر
الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله -عزَّ وجل-"[2]، وفي آخر عام صامه النبي -صلى
الله عليه وسلم- قبل وفاته اعتكف في رمضان عشرين يومًا[3].
وكان يُجعل للنبي
-صلى الله عليه وسلم- في المسجد قُبَّة يعتكف فيها، وهي الخِباء كما في الروايات
الأخرى، وهي عبارة عن خيمة من وَبَر أو صوف، وقد تكون من شعر، وقد صادف في إحدى
السنين أن استأذنت عائشة -رضي الله عنها- النبي-صلى الله عليه وسلم- أن تعتكف في
المسجد، فأذِن لها، وأُقيم لها خِباء داخل المسجد، فلما سمعت بذلك حفصة -رضي الله
عنها-؛ عزمت على الاعتكاف، وأُقيم لها خباء، وهكذا فعلت أمُّ المؤمنين زينب -رضي
الله عنه-، وفي ذلك دليل على جواز اعتكاف المرأة في المسجد، ولكن مع أَمْنِ الفتنة
والبعد عنها، والتزام شروط الاعتكاف، وتيسُّر ذلك من غير محظورات شرعية، فرأى النبي
-صلى الله عليه وسلم- تلك الأخبية، وسأل عنها، فأُخبر خبرها، وأنَّها لأزواجه:
عائشة، وحفصة، وزينب -رضي الله عنهن-، مع أنَّه -عليه الصلاة السلام- إنَّما أذِن
لعائشة فقط ؛ لأنَّها هي التي ابتدأت بالاستئذان، ثم أذِن لحفصة لما كلمته عائشة في
ذلك، كما في رواية النسائي، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الأمر قد
يتوسع فيه نسائه؛ أنكر ذلك وقال: (ما حملهن على هذا؟ آلبر؟) -أي: هل الحامل لهن على
أن يعتكفن جميعًا هو إرادة البرِّ من عمل الطاعة وحصول الأجر؟ أم أنَّ الحامل غير
ذلك من المباهاة والتنافس الناشئ عن الغيرة؛ حرصًا على القرب منه -صلى الله عليه
وسلم- في المسجد-؟ فيخرج الاعتكاف عن مقصده ومراده، فكأنَّه -صلى الله عليه وسلم-
خاف أن يكنَّ غير مخلصات في الاعتكاف، ولعلَّه -صلى الله عليه وسلم- كره ملازمتهن
المسجد مع أنَّه يجمع الناس، ويحضره الرجال، وهن محتاجات إلى الخروج و الدخول لما
يعرض لهن، فيُبْتَذلنَّ لذلك، ويتعرضن لرؤية الرجال، وتكرُّر ذلك منهن، ثم لعلَّهن
بفعلهن ذلك ضيَّقن المسجد، وهكذا، أنَّهن عندما يبقين في المسجد يكون النبي -صلى
الله عليه وسلم- كأنَّه في منزله، فذهب المقصود من الاعتكاف، وهو التخلِّي عن
الأزواج ومتعلَّقات الدنيا وشبه ذلك، ولأجل هذا؛ فقد أمر النبي -صلى الله عليه
وسلم- بإزالة تلك الأخبية وقطع اعتكافه، ولكنه قضاه في العشر الأخيرة من شوال،
ونلحظ هنا كيف أنَّه -عليه الصلاة السلام- قد أنهى هذه العبادة وقطعها بسبب ما قام
في قلوب نسائه من الغيرة؛ لأنَّ الغيرة هنا قد خرجت عن حدِّها مع أنَّه -عليه
الصلاة والسلام- كان يتسامح ويغضُّ الطرف عن غيرة أزواجه ما لم تخرج عن قدرها
المعقول.
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه وغيره: أنَّ أم سلمة زوج النبي
-صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها-، بعثت بطعام في صَحْفَة لها إلى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وذلك في بيت عائشة، فجاءت عائشة -رضي الله عنها-
بحجر، ففلقت به الصَّحْفة، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين فلقتي الصحفة،
وقال: (كلوا غارت أُمُّكم، كلوا غارت أُمُّكم)، ثم أخذ رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- صحفة عائشة، فبعث بها إلى أمِّ سلمة، وأعطى صحفة أمَّ سلمة أي: -المكسورة-
عائشة.
وهكذا نلحظ كيف عالج النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف، بل واعتذر
لعائشة معللًا خطأها بقوله: (غارت أُمُّكم)؛ لئلَّا يُحْمَل صنيعها على ما يُذَم،
بل يُجْرَى على عادة الضرائر من الغيرة، فإنَّها مركبة في النفس بحيث لا يُقْدَر
على دفعها، ولكن بشرط أن لا تخرج عن حدِّها، ولما كان الخطأ هنا في قصة أمِّ سلمة
وإرسالها الطعام خطأ مشتركًا من أم سلمة؛ لكونها بعثت بالطعام في بيت ضرَّتها وفي
غير يومها ومن عائشة لمَّا غارت، وكسرت الإناء؛ فقد كان الحكم بينهما أن تُغرَّم
عائشة الإناء الذي كسرت.
والذي ينبغي على الأزواج جميعًا أن يتأسَّوا
بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ويقتدوا به في سيرته وتعامله مع أهله وزوجاته، ففي
ذلك اطمئنان نفوسهم وتحقيق سعادتهم.
ولنستمع إخوتي وأخواتي إلى موقف من
مواقف بيت النبوة وقع في إحدى الليالي التي كانت لعائشة -رضي الله عنها- وهو متصلٌ
بأمر الغيرة، وأيضًا فيه دلالة على حسن معاشرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهله
ومراعاته لخواطرهم، حيث تقول عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه الإمام مسلم في
صحيحه: "ألا أحدِّثكم عني وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟" قال الحاضرون: بلى،
قالت: "لما كانت ليلتي التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها عندي؛ انقلب فوضع
ردائه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع فلم يلبث
إلَّا ريثما ظن أنِّي قد رقدت، فأخذ ردائه رويدًا، -أي: بلطف؛ حتى لا ينبِّه عائشة
ويوقظها-، قالت: وانتعل رويدًا، وفتح الباب، فخرج، ثم أجافه رويدًا، -أي: أغلق
الباب بصوت خافت، وإنَّما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أن لا يوقظها ويخرج
عنها، فربما لحقتها وحشة في انفرادها في ظلمة الليل-، قالت: فجعلت درعي في رأسي،
واختمرت، وتقنَّعت إزاري، -أي: أنَّها أكملت تستُّرها لتخرج خلف رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- لتنظر أين يذهب-، قالت: ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، -وهي
مقابر أهل المدينة-، فقام، فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف، فانحرف،
ولعله قد رآها ورأى سوادها وهي تجري، فأسرع، فأسرعت، فهرول، فهرولت، فأحضر فأحضرتُ
–أي: عدى ليلحق بها، فعَدَتْ هي وأسرعت-، قالت: فسبقته، فدخلت، فليس إلَّا أن
اضطجعت، فدخل، فقال: (مالك يا عائش؟ حشيا رابية)، -يعني أنَّ نفسها ثائر ومتهيِّج-،
قالت: قلت: لا شيء، قال: (لتخبرنِّي، أو ليخبرنَّي اللطيف الخبير)، قالت: قلت: يا
رسول الله، بأبي أنت وأمي، فأخبرته، يعني أخبرته أنَّها لحقت به؛ لأجل أن تنظر أين
يذهب؟ قال -عليه الصلاة السلام-: (فأنت السواد التي رأيت أمامي؟)، قلت: نعم،
فلهَدَني في صدري لَهْدَة أوجعتني -أي: دفعها قليلًا-، ثم قال: (أظننت أن يحيف الله
عليك ورسوله؟)، قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: (فإنَّ جبريل أتاني حين
رأيتِ، فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت
ثيابك، وظننت أنَّك قد رقدتِ، فكرهتُ أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال -أي:
جبريل-: إنَّ ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم)،قالت: قلت: كيف أقول لهم
يا رسول الله؟ قال: (قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم
الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون).
وفي هذا
الموقف -مستمعي الكرام- فوائد وعبر عديدة وفيها دلالة على شدة عناية النبي -صلى
الله عليه وسلم- بأمر أمته ورحمته بهم ودعائه لهم، فصلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم
الدين، وألحقنا به في الدار الآخرة، وجعلنا في صحبته اللهم آمين، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته .
[1] رواه البخاري في كتاب الاعتكاف من صحيحه، باب:
الاعتكاف في شوال، وفي باب: اعتكاف النساء، وباب: الأخبية في المسجد، وغير ذلك،
ورواه مسلم في صحيحه في كتاب: الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه؟
[2] رواه البخاري
ومسلم.
[3] رواه البخاري في صحيحه.
آله وصحبه أجمعين.
مستمعي الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: نتابع
في هذه الحلقة عرض بعض المواقف من بيت النبوة مع بيان بعض الفوائد واللطائف من تلك
الحياة النبوية الكريمة، فمن ذلك:
ما روته عائشة أمُّ المؤمنين -رضي الله
عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كلِّ رمضان، فإذا صلى
الغداة؛ دخل مكانه الذي اعتكف فيه، فاستأذنته عائشة أن تعتكف، فأذِن لها، فضُربت
فيه قُبة، فسمعت بها حفصة -رضي الله عنها-، فضَربت قبة، وسمعت زينب -رضي الله عنها-
بذلك، فضربت قُبَّة أخرى، فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغداة
-يعني من صلاة الصبح-؛ أبصر ورأى أربع قِباب، فقال ما هذا؟ فأُخبر خبرهن، فقال: (ما
حملهن على هذا؟ آلبر؟ انزعوها، فلا أراها)، فنُزعت، فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف
في آخر العشر من شوال[1].
وفي هذا الحديث -مستمعي الكرام- تخبر أمُّ
المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبادة
الاعتكاف في رمضان، والاعتكاف: هو أن يلزم المسلم المسجد للعبادة على هيئة وشروط
مخصوصة مبيَّنة في موضعها، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يداوم عليه، كما
أخبرت عائشة -رضي الله عنه- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر
الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله -عزَّ وجل-"[2]، وفي آخر عام صامه النبي -صلى
الله عليه وسلم- قبل وفاته اعتكف في رمضان عشرين يومًا[3].
وكان يُجعل للنبي
-صلى الله عليه وسلم- في المسجد قُبَّة يعتكف فيها، وهي الخِباء كما في الروايات
الأخرى، وهي عبارة عن خيمة من وَبَر أو صوف، وقد تكون من شعر، وقد صادف في إحدى
السنين أن استأذنت عائشة -رضي الله عنها- النبي-صلى الله عليه وسلم- أن تعتكف في
المسجد، فأذِن لها، وأُقيم لها خِباء داخل المسجد، فلما سمعت بذلك حفصة -رضي الله
عنها-؛ عزمت على الاعتكاف، وأُقيم لها خباء، وهكذا فعلت أمُّ المؤمنين زينب -رضي
الله عنه-، وفي ذلك دليل على جواز اعتكاف المرأة في المسجد، ولكن مع أَمْنِ الفتنة
والبعد عنها، والتزام شروط الاعتكاف، وتيسُّر ذلك من غير محظورات شرعية، فرأى النبي
-صلى الله عليه وسلم- تلك الأخبية، وسأل عنها، فأُخبر خبرها، وأنَّها لأزواجه:
عائشة، وحفصة، وزينب -رضي الله عنهن-، مع أنَّه -عليه الصلاة السلام- إنَّما أذِن
لعائشة فقط ؛ لأنَّها هي التي ابتدأت بالاستئذان، ثم أذِن لحفصة لما كلمته عائشة في
ذلك، كما في رواية النسائي، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الأمر قد
يتوسع فيه نسائه؛ أنكر ذلك وقال: (ما حملهن على هذا؟ آلبر؟) -أي: هل الحامل لهن على
أن يعتكفن جميعًا هو إرادة البرِّ من عمل الطاعة وحصول الأجر؟ أم أنَّ الحامل غير
ذلك من المباهاة والتنافس الناشئ عن الغيرة؛ حرصًا على القرب منه -صلى الله عليه
وسلم- في المسجد-؟ فيخرج الاعتكاف عن مقصده ومراده، فكأنَّه -صلى الله عليه وسلم-
خاف أن يكنَّ غير مخلصات في الاعتكاف، ولعلَّه -صلى الله عليه وسلم- كره ملازمتهن
المسجد مع أنَّه يجمع الناس، ويحضره الرجال، وهن محتاجات إلى الخروج و الدخول لما
يعرض لهن، فيُبْتَذلنَّ لذلك، ويتعرضن لرؤية الرجال، وتكرُّر ذلك منهن، ثم لعلَّهن
بفعلهن ذلك ضيَّقن المسجد، وهكذا، أنَّهن عندما يبقين في المسجد يكون النبي -صلى
الله عليه وسلم- كأنَّه في منزله، فذهب المقصود من الاعتكاف، وهو التخلِّي عن
الأزواج ومتعلَّقات الدنيا وشبه ذلك، ولأجل هذا؛ فقد أمر النبي -صلى الله عليه
وسلم- بإزالة تلك الأخبية وقطع اعتكافه، ولكنه قضاه في العشر الأخيرة من شوال،
ونلحظ هنا كيف أنَّه -عليه الصلاة السلام- قد أنهى هذه العبادة وقطعها بسبب ما قام
في قلوب نسائه من الغيرة؛ لأنَّ الغيرة هنا قد خرجت عن حدِّها مع أنَّه -عليه
الصلاة والسلام- كان يتسامح ويغضُّ الطرف عن غيرة أزواجه ما لم تخرج عن قدرها
المعقول.
ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه وغيره: أنَّ أم سلمة زوج النبي
-صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها-، بعثت بطعام في صَحْفَة لها إلى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وذلك في بيت عائشة، فجاءت عائشة -رضي الله عنها-
بحجر، ففلقت به الصَّحْفة، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- بين فلقتي الصحفة،
وقال: (كلوا غارت أُمُّكم، كلوا غارت أُمُّكم)، ثم أخذ رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- صحفة عائشة، فبعث بها إلى أمِّ سلمة، وأعطى صحفة أمَّ سلمة أي: -المكسورة-
عائشة.
وهكذا نلحظ كيف عالج النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف، بل واعتذر
لعائشة معللًا خطأها بقوله: (غارت أُمُّكم)؛ لئلَّا يُحْمَل صنيعها على ما يُذَم،
بل يُجْرَى على عادة الضرائر من الغيرة، فإنَّها مركبة في النفس بحيث لا يُقْدَر
على دفعها، ولكن بشرط أن لا تخرج عن حدِّها، ولما كان الخطأ هنا في قصة أمِّ سلمة
وإرسالها الطعام خطأ مشتركًا من أم سلمة؛ لكونها بعثت بالطعام في بيت ضرَّتها وفي
غير يومها ومن عائشة لمَّا غارت، وكسرت الإناء؛ فقد كان الحكم بينهما أن تُغرَّم
عائشة الإناء الذي كسرت.
والذي ينبغي على الأزواج جميعًا أن يتأسَّوا
بنبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ويقتدوا به في سيرته وتعامله مع أهله وزوجاته، ففي
ذلك اطمئنان نفوسهم وتحقيق سعادتهم.
ولنستمع إخوتي وأخواتي إلى موقف من
مواقف بيت النبوة وقع في إحدى الليالي التي كانت لعائشة -رضي الله عنها- وهو متصلٌ
بأمر الغيرة، وأيضًا فيه دلالة على حسن معاشرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأهله
ومراعاته لخواطرهم، حيث تقول عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه الإمام مسلم في
صحيحه: "ألا أحدِّثكم عني وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟" قال الحاضرون: بلى،
قالت: "لما كانت ليلتي التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها عندي؛ انقلب فوضع
ردائه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع فلم يلبث
إلَّا ريثما ظن أنِّي قد رقدت، فأخذ ردائه رويدًا، -أي: بلطف؛ حتى لا ينبِّه عائشة
ويوقظها-، قالت: وانتعل رويدًا، وفتح الباب، فخرج، ثم أجافه رويدًا، -أي: أغلق
الباب بصوت خافت، وإنَّما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أن لا يوقظها ويخرج
عنها، فربما لحقتها وحشة في انفرادها في ظلمة الليل-، قالت: فجعلت درعي في رأسي،
واختمرت، وتقنَّعت إزاري، -أي: أنَّها أكملت تستُّرها لتخرج خلف رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- لتنظر أين يذهب-، قالت: ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، -وهي
مقابر أهل المدينة-، فقام، فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف، فانحرف،
ولعله قد رآها ورأى سوادها وهي تجري، فأسرع، فأسرعت، فهرول، فهرولت، فأحضر فأحضرتُ
–أي: عدى ليلحق بها، فعَدَتْ هي وأسرعت-، قالت: فسبقته، فدخلت، فليس إلَّا أن
اضطجعت، فدخل، فقال: (مالك يا عائش؟ حشيا رابية)، -يعني أنَّ نفسها ثائر ومتهيِّج-،
قالت: قلت: لا شيء، قال: (لتخبرنِّي، أو ليخبرنَّي اللطيف الخبير)، قالت: قلت: يا
رسول الله، بأبي أنت وأمي، فأخبرته، يعني أخبرته أنَّها لحقت به؛ لأجل أن تنظر أين
يذهب؟ قال -عليه الصلاة السلام-: (فأنت السواد التي رأيت أمامي؟)، قلت: نعم،
فلهَدَني في صدري لَهْدَة أوجعتني -أي: دفعها قليلًا-، ثم قال: (أظننت أن يحيف الله
عليك ورسوله؟)، قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، قال: (فإنَّ جبريل أتاني حين
رأيتِ، فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت
ثيابك، وظننت أنَّك قد رقدتِ، فكرهتُ أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال -أي:
جبريل-: إنَّ ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم)،قالت: قلت: كيف أقول لهم
يا رسول الله؟ قال: (قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم
الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون).
وفي هذا
الموقف -مستمعي الكرام- فوائد وعبر عديدة وفيها دلالة على شدة عناية النبي -صلى
الله عليه وسلم- بأمر أمته ورحمته بهم ودعائه لهم، فصلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم
الدين، وألحقنا به في الدار الآخرة، وجعلنا في صحبته اللهم آمين، والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته .
[1] رواه البخاري في كتاب الاعتكاف من صحيحه، باب:
الاعتكاف في شوال، وفي باب: اعتكاف النساء، وباب: الأخبية في المسجد، وغير ذلك،
ورواه مسلم في صحيحه في كتاب: الاعتكاف، باب: متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه؟
[2] رواه البخاري
ومسلم.
[3] رواه البخاري في صحيحه.